فصل: تفسير الآيات رقم (9- 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏24‏)‏ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مودَّةَ بينكم‏}‏‏:‏ مَنْ نَصَبَها‏:‏ فله وجهان؛ أحدهما‏:‏ على التعليل، أي لتوادوا بينكم، والمفعول الثاني محذوف، أي‏:‏ اتخذتم أوثاناً آلهة‏.‏ والثاني على المفعول الثاني لاتخذتم، كقوله‏:‏ ‏{‏اتخذ آلهه هواه‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43‏]‏‏.‏ و‏(‏ما‏)‏‏:‏ كافة، أي‏:‏ اتخذتم الأوثان سَبَبَ المودَّةِ على حَذْفِ مضاف، أو‏:‏ اتخذتموها مَوْدُودَةً بينكم‏.‏ و‏(‏بينكم‏)‏‏:‏ نصب على الظرفية؛ نعت لمودة، أي‏:‏ حاصلة بينكم‏.‏ ومن رفع‏:‏ فله وجهان؛ إما خبر إن، و‏(‏ما‏)‏ موصولة، أو‏:‏ عن مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هي مودة بينكم، و‏(‏بينكم‏)‏‏:‏ مضاف إليه ما قبله‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فما كان جوابَ قومه‏}‏؛ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الله ‏{‏إلا أن قالوا اقتلوه أو حَرِّقوه‏}‏، قاله بعضهم لبعض، أو‏:‏ قاله واحد منهم، وكان الباقون راضين، فكانوا جميعاً في الحكم القائلين‏.‏ فاتفقوا على تحريقه، ‏{‏فأنجاه الله من النار‏}‏ حين قذفوه فيها؛ بأن جعلها برداً وسلاماً‏.‏ وتقدم في الأنبياء تمام القصة‏.‏

‏{‏إن في ذلك‏}‏؛ فيما فعلوه به وفعلناه ‏{‏لآياتٍ‏}‏ دالةً على عظم قدرته ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏؛ لأنهم المنتفعون بالفصح عنها والتأمل فيها‏.‏ رُوي أنه لم ينتفع بها في تلك الأيام أحد لذهاب حرها؛ لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت‏.‏

‏{‏وقال‏}‏ إبراهيمُ لقومه‏:‏ ‏{‏إِنما اتخذتم من دون الله أوثاناً‏}‏؛ أصناماً آلهة ‏{‏مودَّةَ بينكم في الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ لتوادوا بينكم في الحياة الدنيا، وتواصلوا؛ لاجتماعكم على عبادتها، واتفاقكم عليها كما تتفق الناس على مذهب أو طريق، فيكون ذلك سبب تحابهم‏.‏ أو‏:‏ إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم، أو‏:‏ إن التي اتخذتموها أوثاناً تعبدونها هي مودة بينكم في الدنيا، ‏{‏ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض‏}‏ أي‏:‏ تتبرأ الأصنام من عابديها؛ كقوله‏:‏ ‏{‏الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ ‏{‏ويعلن بعضُكم بعضاً‏}‏، فتلعن الأتباعُ الرؤساء‏:‏؛ ‏{‏ومأواكم النار‏}‏ أي‏:‏ مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع‏.‏ ‏{‏وما لكم من ناصرين‏}‏ يحصنونكم منها‏.‏

الإشارة‏:‏ الإنكار على أهل الخصوصية سنَّة الله في خلقه، فلا يأنف منها إلا جاهل، والاجتماع على التودد على غير ذكر الله ومحبته وما يقرب إليه، كله يؤدي إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة؛ ‏{‏الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين‏}‏، وهم المتحابون في الله، والمجتمعون على ذكر الله والعلم به‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏26‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فآمن‏}‏ لإبراهيم، أي‏:‏ انقاد ‏{‏له لوطٌ‏}‏، وكان ابنَ أخيه، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه‏.‏ ‏{‏وقال‏}‏ إبراهيم‏:‏ ‏{‏إني مهاجرٌ إلى ربي‏}‏؛ إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وهو الشام، فخرج من «كوثى»، وهي من سواد الكوفة، إلى حرّان، ثم منها إلى فلسطين، وهي من برية الشام، ونزل لوط بسدوم، ومِنْ ثَمَّ قالوا لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان‏.‏ وكان معه، في هجرته، لوط وسارة زوجته‏.‏

وقيل‏:‏ القائل‏:‏ ‏{‏إني مهاجرٌ إلى ربي‏}‏ هو لوط، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط‏.‏ وذكر البيهقي‏:‏ إن أول من هاجر منا في الإسلام بأهله‏:‏ عثمان‏.‏ ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال‏:‏ إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط‏.‏ ه‏.‏ يعني‏:‏ الهجرة إلى الحبشة‏.‏ وكانت- فيما ذكر الواقدي- سنة خمس من البعثة، وأما الهجرة إلى المدينة؛ ففي البخاري عن البراء‏:‏ أولُ من قَدِمَ المدينة من الصحابة، مهاجراً، مُصعبُ بن عُمير، وابن أم مكتوم، ثم جاء عمَّارُ، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إنه هو العزيزُ‏}‏ الذي يمنعني من أعدائي، ‏{‏والحكيمُ‏}‏ الذي لا يأمرني إلا بما هو خير لي‏.‏

‏{‏ووهبنا له إسحاقَ‏}‏ ولداً، ‏{‏ويعقوبَ‏}‏ وَلَدَ وَلَدٍ، ولم يذكر إسماعيل؛ لشهرته، أو‏:‏ لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر، فَعَظُمَتْ المِنَّةُ به‏.‏ ‏{‏وجعلنا في ذريته النبوةَ‏}‏ أي في ذرية إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء، ‏{‏والكتابَ‏}‏ يريد به الجنسَ، ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان‏.‏ ‏{‏وآتيناه أجْرَه في الدنيا‏}‏ أي‏:‏ الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، أو‏:‏ هو بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لغيره، أو‏:‏ المال الحلال، واللفظ عام‏.‏ وفيه دليل على أن الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر في الدنيا، ولا يخل بعلو منصبهم ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ لحضرتنا، والسكنى في جوارنا‏.‏ أسكننا الله معهم في فسيح الجنان‏.‏ آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ الهجرة سُنَّة الخواص، وهي على قسمين‏:‏ هجرة حسية وهجرة معنوية، فالحسية هي هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله أو الإذاية والإنكار إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق‏.‏ والهجرة المعنوية‏:‏ هي هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني، وهذه نهاية الهجرة‏.‏

قال القشيري‏:‏ لا تَصحُّ الهجرةُ إلى الله إلا بالتبرِّي بالقلب من غير الله، والهجرةُ بالنفس يسيرةٌ بالنسبة إلى الهجرة بالقلب، وهي هجرة الخواص، وهي الهجرة عن أوطان التفرقة إلى ساحة الجمعِِ، والجمعُ بين التعريج في أوطان التفرقة والكونِ في مشاهدة الجمع متنافٍ‏.‏ ه‏.‏ وقالَ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ أي‏:‏ للدنوِّ والقربة والتخصيص بالزلفة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 35‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏30‏)‏ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏34‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏لوطاً إِذْ قال لقومه إِنكم لتأتون الفاحشةَ‏}‏ أي‏:‏ الفعلة البالغة في القُبح، وهي اللواطة، ‏{‏ما سَبَقَكم بها من أحدٍ من العالمين‏}‏‏:‏ جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة، كأن قائلاً قال‏:‏ لِمَ كانت فاحشة‏؟‏ فقال‏:‏ لأن أحداً ممن قبلهم لم يقدم عليها، قالوا‏:‏ لم يَنْزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط‏.‏ ‏{‏أئِنكم لتأتون الرجالَ وتقطعون السبيلَ‏}‏ اي‏:‏ تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال، كما هو شأن قُطاع الطريق، وقيل‏:‏ اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة، ‏{‏وتأتون في ناديكم‏}‏؛ في مجالسكم الغاصة بأهلها، ولا يقال للمجلس‏:‏ ناد، إلا ما دام فيه أهله، ‏{‏المنكرَ‏}‏ فعلهم الفاحشة بالرجال، أو المضارطة، أو‏:‏ السباب والفحش في المزاح، أو الحذف بالحصى، أو‏:‏ مضغ العلك، أو الفرقعة‏.‏

وعن أم هانىء- رضي اله عنها- أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏{‏وتأتون في ناديكم المنكر‏}‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ «كانوا يحذفون من يمرّ بهم الطريق، ويسخرون منهم» وقال معاوية‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل قصعة من الحصى، فإذا مر بهم عابر قذفوه، فأيهم أصابه؛ كان أَوْلَى به»‏.‏

‏{‏فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذابِ الله إن كنت من الصادقين‏}‏ فيما تعدنا من نزول العذاب، أو في دعوى النبوة، المفهومة من التوبيخ، ‏{‏قال ربِّ انصرني‏}‏ بإنزال العذاب ‏{‏على القوم المفسدين‏}‏ بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها، وسَنِّهَا لِمَنْ بعدهم‏.‏

وصفهم بذلك؛ مبالغة استنزال العذاب، وإشعاراً بأنهم أحِقاء بأن يعجل لهم العذاب

‏{‏ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى‏}‏، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم؛ بالولد، والنافلة إسحاق، ويعقوب، أي‏:‏ مروا عليه، حين كانوا قاصدين قوم لوط، ‏{‏قالوا إنا مهلكوا أهْلِ هذه القرية‏}‏؛ سدوم، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام، قالوا‏:‏ إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم، قاله النسفي‏.‏ ‏{‏إن أهلها كانوا ظالمين‏}‏، تعليل للإهلاك، أي‏:‏ إن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة، وهم عليه مُصِرُّونَ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم‏.‏ ‏{‏قال‏}‏ إبراهيم‏:‏ ‏{‏إن فيها لوطاً‏}‏ أي‏:‏ أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم، أو‏:‏ وفيهم نبي بين أظهرهم‏؟‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ الملائكة‏:‏ ‏{‏نحن أعلمُ‏}‏ منك ‏{‏بمن فيها لننجيَّنه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين‏}‏؛ الباقين في العذاب‏.‏

ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم، فقال‏:‏ ‏{‏ولما أن جاءتْ رُسُلُنَا لوطاً سِيء بهم‏}‏ أي‏:‏ ساءه مجيئُهم وغمه مخافة أن يقصدهم قومه بسوء‏.‏ و«أن»‏:‏ صلة؛ لتأكيد الفعلين وترتيب أحدهما على الآخر كأنهما وُجِدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل‏:‏ لمَّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب‏.‏

‏{‏وضاق بهم ذَرْعاً‏}‏ أي‏:‏ ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعُه وطاقته، وقد جعلوا ضيقَ الذرعِ والذراع عبارةً عن فقد الطاقة، كما قالوا‏:‏ رحْب الذراع، إذا كان مُطيقاً للأمور، والأصلَ فيه‏:‏ إن الرجل إذا طالت ذراعه نال مالا يناله القصير، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف‏:‏ ‏{‏لا تخفْ ولا تحزنْ‏}‏ على تمكنهم منا، ‏{‏إنا منجُّوكَ وأهلَكَ‏}‏ أي‏:‏ وننجي أهلك، فالكاف في محل الجر، و«أهلك»‏:‏ نصب بفعل محذوف، ‏{‏إلا إمرأتكَ كانت من الغابرين‏}‏‏.‏ في الكلام حذف يدل عليه ما في هود، أي‏:‏ لا تخف ولا تحزن من أجلنا، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك، بل يهلكون جميعاً، وأما أنت؛ فإنا منجوك‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ؛ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه‏.‏ أو يقدر‏:‏ إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم‏.‏ ثم قالوا‏:‏ ‏{‏إنا منزلون على أهلِ هذه القرية رِجْزاً‏}‏؛ عذاباً ‏{‏من السماء بما كانوا يَفْسُقُون‏}‏؛ بسبب فسقهم‏.‏

‏{‏ولقد تركنا منها‏}‏؛ من القرية ‏{‏آية بينةً‏}‏ هي حكايتها الشائعة، أوآثار منازلهم الخربة، وقيل‏:‏ الماء الأسود على وجه الأرض، حيث بقيت أنهارهم مسودة، وقيل‏:‏ الحجارة المسطورة، فإنها بقيت بعدهم آية ‏{‏لقومٍ يعقلون‏}‏؛ يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتأتون في ناديكم المنكر‏}‏ قال القشيري‏:‏ من جملة المنكر‏:‏ تخلية الفُسَّاق مع فِسقهم، وترك القبض على أيديهم، ومن ذلك‏:‏ ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر‏.‏ ه‏.‏ وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن فيها لوطاً‏}‏، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط تكلم في شأن لوط، إلى أن قالوا‏:‏ ‏{‏لننجينه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط، ولو كان بريئاً، لم يكن ظلماً، لو كان كذلك قبيحاً لما كان إبراهيم- مع وفْر علمه- يُشكل عليه، حتى كان يجادل عنه، بل لله أن يعذِّبُ مَنْ يعذِّب ويعافي، من يعافي بلا حَجر ه‏.‏

قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته‏:‏ وما ذكره واضح من حيث العقيدة، وإن كانت الآية، وقولُ إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏‏.‏ والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏ الآية‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏؛ أن مجادلته كانت عن قومه فقط؛ لغلبة الشفقة عليه، كما هو شأنه، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ حتى قال له تعالى‏:‏ ‏{‏ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ عَنْ هَذَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 76‏]‏ لَمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب، فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏36‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إلى مدينَ أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله‏}‏ وحده، ‏{‏وارجُوا اليومَ الآخر‏}‏ أي‏:‏ خافوه، واعملوا ما ترجون به الثواب فيه، ‏{‏ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏؛ قاصدين الفساد، ‏{‏فكذّبوه فأخذتهم الرجفةُ‏}‏؛ الزلزلة الشديدة، أو‏:‏ الصيحة من جبريل عليه السلام؛ لأن القلوب رجفت بها، ‏{‏فأصبحوا في دارهم‏}‏؛ بلدهم وأرضهم، ‏{‏جاثمين‏}‏؛ باركين على الرُكب؛ ميتين‏.‏

الإشارة‏:‏ العبادة مع الغفلة عن العواقب الغيبية المستقبلة، لا جدوى لها، كأنها عادة، وخوف العواقب، من غير استعداد لها، خذلان، والاجتهاد في العمل، مع ارتقاب العواقب الغيبية، فلاح، من شأن أهل البصائر، كما قال تعالى في حق من مدحهم من أكابر الرسل‏:‏ ‏{‏أُوْلِي الأيدي والأبصار إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45، 46‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ‏(‏39‏)‏ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وعاداً وثمودَا‏}‏ أي‏:‏ اذكر عاداً وثموداً، أو أهلكنا عاداً، وثموداً يدل عليه ‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏؛ لأنه في معنى الإهلاك، ‏{‏وقد تبيَّنَ لكم‏}‏ ما وصفنا من إهلاكهم ‏{‏من مساكنهم‏}‏ الدارسة‏.‏ أو تبين لكم بعض مساكنهم الخربة إذا مررتم بها خالية‏.‏ ‏{‏وزيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم‏}‏ من الكفر والمعاصي، ‏{‏فصدَّهم عن السبيل‏}‏؛ عن الطريق الذي أُمروا بسلوكه، وهو الإيمان بالله ورسوله‏.‏ ‏{‏وكانوا مستبصرين‏}‏؛ متمكنين من النظر والاستبصار وتميز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا‏.‏ أو عارفين الحق من الباطل؛ بظهور دلائله، لكنهم عاندوا، حسداً‏.‏ يقال‏:‏ استبصر‏:‏ إذا عرف الشيء على حقيقته‏.‏ أو‏:‏ متيقنين أن العذاب لاحق بهم؛ بإخبار الرسول، لكنهم لجّوا‏.‏ أو‏:‏ مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها‏.‏

وقال الفراء‏:‏ عقلاء ذوو بصائر، يعني‏:‏ علماء في أمور الدنيا، كقوله‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ حسبوا أنهم على الحق، وهم على الباطل‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وقارونَ وفرعونَ وهامان‏}‏‏:‏ أي‏:‏ أهلكناهم، ‏{‏ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين‏}‏؛ فائتين، بل أدركهم أمر الله فلم يفوتوه‏.‏ يقال‏:‏ سبق طالبه‏:‏ فاته، ‏{‏فكُلاًّ أخذنا‏}‏؛ عاقبناه ‏{‏بذنبه‏}‏، فيه رد على من يُجوز العقوبة بغير ذنب‏.‏ قاله النسفي، وهو جائز عقلاً في حقه تعالى، لكنه لم يقع؛ لإظهار عدله‏.‏ ‏{‏فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً‏}‏ أي‏:‏ ريحاً عاصفة فيها حصباء أو‏:‏ مَلِكاً رماهم بها‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ فيحتمل عندي أنه أراد به المعنيين؛ لأن قوم لوط هلكوا بالحجارة، وعاداً هلكوا بالريح‏.‏ وإن حملناه على المعنى الواحد؛ نقض ذكر لآخر، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد؛ في معنيين، ويقوي ذلك إن المقصود عموم أصناف الكفار‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ومنهم من أخذتهم الصيحةُ‏}‏؛ كمدين وثمود، ‏{‏ومنهم من خسفنا به الأرضَ‏}‏ كقارون، ‏{‏ومنهم من أغرقنا‏}‏؛ كقوم نوح، وفرعون وقومه، ‏{‏وما كان الله ليظلمهم‏}‏ فيعاقبهم بغير ذنب؛ إذ ليس ذلك من عادته- عز وجل-، وإن جاز في حقه، ‏{‏ولكن كانوا أنفسَهم يَظْلِمُون‏}‏؛ بالتعرض للعذاب بالكفر والطغيان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ الاستبصار في أمور الدنيا والتحديق في تدبير شؤونها، حمق وبطالة، وقد وسم به الحق تعالى الكفرة بقوله‏:‏ ‏{‏وكانوا مستبصرين‏}‏، والاستبصار في أمور الله تعالى وما يقرب إليه وما يبعد عنه، والفحص عن ذلك، والتفكر في عواقب الأمور؛ من شأن العقلاء الأكياس، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا وإن من علامات العقل‏:‏ التجافي عن دار الغرور؛ والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور»، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ الموت، والأحمق من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنَّى على اللهِ الأماني»، وقيل للجنيد رضي الله عنه‏:‏ متى يكون الرجل موصوفاً بالعقل‏؟‏ فقال‏:‏ إذا كان للأمور متميزاً، ولها متصفحاً، وعما يوجبه عليه العقل باحثاً، فيتخيرُ بذلك طلب الذي هو أولى، ليعمل به، ويُؤْثِرَهُ على ما سواه‏.‏ ثم قال‏:‏ فمن كانت هذه صفته ترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغُلُ به، والعملُ له، عن أمور الآخرة، التي يدوم نعيمها ونفعها، ويتأبد سرورها، ويتصل بقاؤها‏.‏‏.‏ إلخ كلامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏42‏)‏ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين اتخذوا من دون اللهِ أولياءَ‏}‏؛ أصناماً يعبدونها، أي‏:‏ مَثَلُ من أشرك بالله الأوثان؛ في الضعف، وسوء الاختيار، ‏{‏كَمَثَل العنكبوتِ اتخذت بيتاً‏}‏، أي‏:‏ كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت؛ فإنه لا يدفع الحر والبرد، ولا يقي ما تقي البيوت، فكذلك الأوثان، لا تنفعهم في الدنيا والآخرة، بل هي أَوْهَى وأضعف، فإن لبيت العنكبوت حقيقةً وانتفاعاً عاماً، وأما الأوثان فتضر ولا تنفع، ‏{‏وإنَّ أوْهَنَ البيوتِ‏}‏ أي‏:‏ أضعفها ‏{‏لبيتُ العنكبوت‏}‏؛ لا بَيْتَ أوهن من بيته؛ إذْ أضعف شيء يسقطها‏.‏ عن عليّ رضي الله عنه‏:‏ «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه يُورث الفقر»‏.‏

والعنكبوت يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ويجمع على عناكيب وعناكب وعِكاب وعكَبَة وأعكُب‏.‏ ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ لعلموا أن هذا مثلُهم، وأنَّ ما تمسكوا به من الدين أرق من بيت العنكبوت‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تقدير الآية‏:‏ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء، لو كانوا يعلمون، كمثل العنكبوت‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ مَثَلُ المشركِ يعبد الوثن، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجُرٍّ وجص، أو جص وصخور، فكما أن أوهن البيوت، إذا استقرأتَهَا بيتاً بيتاً، بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان، إذا تتبعتها ديناً ديناً، عبادةُ الأوثان‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ضرب مثلاً لضعف آلهتهم ووهنها، فلو علموا أن عبادة الأوثان، في عدم الغنى، كما ذكرنا في المثل، لَمَا عبدوها، ولكنهم لا يعلمون، بل الله يعلم ضَعف ما تعبدون من دونه وعجزه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء‏}‏، أي‏:‏ يعلم حاله، وصفته، وحقيقته، وعدم صلاحيته لِمَا تؤملونه منه، فما‏:‏ موصولة، مفعول «يعلم»، وهي تامة، أي‏:‏ يتعلق علمه بجميع ما يعبدونه من دونه أيّ شيء كان‏.‏ أو ناقصة والثاني محذوف أي‏:‏ يعلمه وهياً وباطلاً‏.‏ وقيل‏:‏ استفهامية معلقة، وأما كونها نافية فضعيف، و«من» الثانية؛ للبيان، ومن قرأ بالخطاب؛ فعلى حذف القول، أي‏:‏ ويقال للكفرة‏:‏ إن الله يعلم ما تعبدونه من دونه من جيمع الأشياء، أو‏:‏ أيّ شيء كان‏.‏

‏{‏وهو العزيزُ‏}‏ الغالب الذي لا شريك له ‏{‏الحكيمُ‏}‏ في ترك المعاجلة بالعقوبة وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جماداً لا علم له ولا قدرة وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء الحكيم الذي لا يفعل إلا لحكمة وتدبير‏.‏

‏{‏وتلك الأمثالُ‏}‏ الغريبة، أي‏:‏ هذا المثل ونظائره ‏{‏نضربها للناس‏}‏؛ نُبّيِّنُها لهم؛ تقريباً لما بَعُدَ عن أفهامهم‏.‏ كان سفهاء قريش وجهَلَتُهم يقولون‏:‏ إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعقلها إلا العالِمون‏}‏، أي‏:‏ بالله وصفاته وأسمائه، وبمواقع كلامه وحِكَمه، أي‏:‏ لا يعقل صحتها وحُسنها، ولا يفهم حكمتها، إلا هم؛ لأن الأمثال والتشْبيهات إنما هي طرق إلى المعاني المستورة، حتى يبرزها ويصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه الذي بيّن فيه حال المشرك وحال المؤمن‏.‏

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا في هذه الآية، وقال‏:‏ «العالِم‏:‏ مَنْ عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه»، وَدَلَّتْ هذه الآية على فضل العلم وأهله‏.‏

‏{‏خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ بالحق‏}‏ أي‏:‏ محقاً، لم يخلقها عبثاً، كما لم يضرب الأمثال عبثاً، بل خلقها لحكمة، وهي أن تكون مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين منهم ودلائل على عظم قدرته، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيةً للمؤمنين‏}‏؛ لأنهم هم المنتفعون بها‏.‏ وقيل‏:‏ بالحق؛ العدل، وقيل‏:‏ بكلامه وقدرته، وذلك هو الحق الذي خلق به الأشياء‏.‏ وخص السموات والأرض؛ لأنها المشهودات‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من اعتمد على غير الله، أو مال بالمحبة إلى شيء سواه، كان كمن اعتمد على خيط العنكبوت، فعن قريب يذهب ويفوت، يا من تعلق بمن يموت؛ قد تَمَسَّكَتَ بأضعف من خيط العنكبوت‏.‏

تنبيه‏:‏ الأشياء الحسية جعل الله فيها القوي والضعيف، والعزيز والذليل، والفقير والغني؛ لِحكمة، وأما أسرار المعاني القائمة بها؛ فكلها قوية عزيزة غنية، فالأشياء، بهذا الإعتبار- أعني‏:‏ النظر لحسها ومعناها- كلها قوية في ضعفها، عزيزة في ذلها، غنية في فقرها‏.‏ ولذلك تجد الحق تعالى يدفع بأضعف شيء وأقوى شيء، وينصر بأذل شيء على أقوى شيء‏.‏ رُوي أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أوْهَن البيوت لبيتُ العنكبوت‏}‏؛ شكى العنكبوتُ إلى الله تعالى، وقال ربِّ خلقتني ضعيفاً، ووصفتني بالإهانة والضعف، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ انكسر قلبك من قولنا، ونحن عند المنكسرة قلوبهم من أجلنا، وقد صددنا بنسجك الضعيف صناديد قريش، وأغنينا محمداً عن كل ركن كثيف، فقال‏:‏ يا رب حسبي أن خلقت في ذلي عزتي، وفي إهانتي قوتي‏.‏ ه‏.‏ ذكره في اللباب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏اتْلُ ما أُوحي إليك من الكتابِ‏}‏؛ تَنَعُّماً بشهود أسرار معانيه، وبشهود المتكلم به، فتغيب عن كل ما سواه، واستكشافاً لحقائقه، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه‏.‏ وقد كان من السلف من يبقى في السورة يكررها أياماً، وفي الآية يرددها ليلة وأكثر، كلما رددها ظهر له معان أُخر‏.‏

‏{‏وأَقِم الصلاةَ‏}‏ أي‏:‏ دم على إقامتها، بإتقانها؛ فعلاً وحضوراً وخشوعاً، ‏{‏إن الصلاةَ تنهى عن الفحشاء‏}‏؛ الفعلة القبيحة؛ كالزنى، والشرب، ونحوهما، ‏{‏والمنكرِ‏}‏، وهو ما يُنكره الشرع والعقل‏.‏ ولا شك أن الصلاة، إذا صحبها الخشوع والهيبة في الباطن، والإتقان في الظاهر، نهت صاحبها عن المنكر، لا محالة، وإلا فلا‏.‏

رُوي أن فتًى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله الصلوات، ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه، فَوُصِفَ حَالُهُ له صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إن صلاته تنهاه»، فلم يلبث أن تاب‏.‏ ه‏.‏

وأما من كان يصليها فلم تنهه؛ فهو دليل عدم قبولها، ففي الحديث‏:‏ «من لمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عن الفحشاء والمنكر لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعْداً» رواه الطبراني‏.‏ وقال الحسن‏:‏ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة، وهي بال عليه‏.‏ وقال ابن عوف‏:‏ إن الصلاة تنهى؛ إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر‏.‏ ه‏.‏ فخص النهي بكونه ما دام فيها، وعليه حَمَلَهُ المَحلِّي‏.‏

قال المحشي‏:‏ يعني‏:‏ أن مِنْ شأنها ذلك، وإن لم يحصل ذلك فلا تخرج عن كونها صلاة، كما أن من شأن الإيمان التوكل، وإن قدر أن أحداً من المؤمنين لا يتوكل؛ فلا يخرج ذلك عن الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ الصلاة الحقيقية‏:‏ ما تكون لصاحبها ناهيةً عن ذلك، وإن لم ينته فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى‏:‏ ورود الزواجر على قلبه، ولكنه أصر ولم يطع‏.‏ ويقال‏:‏ بل الصلاة الحقيقية ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فإن كان، وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها‏.‏ انظر القيشيري‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ إذا وقعت على ما ينبغي؛ من الخشوع، والإخبات لذكر عظمة الله، والوقوف بين يديه، انتهى عن الفحشاء والمنكر، وأما مَنْ كانت صلاته لا ذكر فيها ولا خشوع، فتلك تترك صاحبها بمنزلته حيث كان‏.‏ ه‏.‏

فائدة‏:‏ ذكر في اللباب أن أول من صلى الصبح آدم عليه السلام، لأنه لم يكن رأى ظلمة قط، فلما نزل، وجنَّه الليل خرّ مغشياً، فلما أصبح ورأى النور صلى ركعتين، شكراً‏.‏ وأول من صلى الظهر إبراهيم، فلما فدى ولده، وقد كان نزل به أربعة أهوال، هم الذبح وهم الولد، وهم والدته، وهم مرضاة الرب، فصلى أربع ركعات، شكراً لله تعالى‏.‏

وأول من صلى العصر سليمان عليه السلام، لمَّا رد الله عليه ملكه‏.‏ وأول من صلى المغرب عيسى عليه السلام، كفارة عما اعتقد فيه من أنه ثالث ثلاثة‏.‏ وأول من صلى العشاء يونس عليه السلام، ولعله هذا الوقت الذي نُبذ فيه بالعراء‏.‏ وأول من توضأ آدم؛ كفارة لأكله‏.‏ ه‏.‏ مختصراً بزيادة بيان‏.‏ وجمعها الحق تعالى لهذه الأمة المحمدية؛ لتحوز فصائل تلك الشرائع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جَامِعٌ لِمَا افْتَرَقَ في غيره‏.‏

ثم قال تعالى ‏{‏ولذكرُ الله أكبرُ‏}‏، أي‏:‏ ولذكر الله، على الدوام، أكبر، في النهي من الفحشاء والمنكر، من الصلاة؛ لأنها في بعض الأوقات‏.‏ فالجزء الذي في الصلاة ينهى عن الفحشاء الظاهرة، والباقي ينهى عن الفحشاء الباطنة، وهو أعظم، ولأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكرٍ لله، مراقبٍ له، وثواب ذلك الذكر أن يذكر الله تعالى؛ لقوله‏:‏ ‏{‏فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏‏.‏ ومن ذَكَرَه حَفِظَهُ ورعاه‏.‏ أو‏:‏ لذكر الله أكبر؛ أجراً، من الصلاة، ومن سائر الطاعات، كما في الحديث‏:‏ «ألا أنبئكم بخيرِ أعمالكمْ، وأزكْاهَا عند مليككم، وأرفَعِهَا في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عدوكم فتضربُوا أعناقهم ويضربوا اعناقكمْ‏؟‏ قالوا‏:‏ وما ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال ذِكْرُ الله» وسئل أي الأعمال أفضل‏؟‏ قال‏:‏ «أن تموتَ ولسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله»

قيل‏:‏ المراد بذكر الله هو الصلاة نفسها، أي‏:‏ وَللصلواتُ أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبّر عنها بذكر الله؛ ليشعر بالتعليل، كأنه قال‏:‏ والصلاة أكبر؛ لأنها ذكر الله‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ولذكر الله لكم إياكم، برحمته، أكبر من ذكركم إياه بطاعته‏.‏ وقال ابن عطاء ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له؛ لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم يفنى‏.‏ أو‏:‏ لذكر الله أكبر من أن تفهمه أفهامكم وعقولكم‏.‏ أو‏:‏ ذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية‏.‏ ‏{‏والله يعلم ما تصنعون‏}‏ من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر المتعلِّقَيْنِ بالجوارح الظاهرة، والذكر ينهى عن الفحشاء والمنكر والمتعلقين بالعوالم الباطنة، وهي المساوئ التي تحجب العبد عن حضرة الغيوب فإذا أكثر العبد من ذكر الله، على نعت الحضور والتفرغ من الشواغل، تنور قلبه، وتطهر سره ولُبه، فاتصف بأوصاف الكمال، وزالت عن جميع العلل، ولذلك جعلته الصوفية مُعْتَمَدَ أعمالِهِمْ، والتزموه مع مرور أوقاتهم وأنفاسهم، ولم يقتنعوا منه بقليل ولا كثير، بل قاموا بالجد والتشمير، فيذكرون أولاً بلسانهم وقلوبهم، ثم بقلوبهم فقط، ثم بأرواحهم وأسرارهم فيغيبون حينئذٍ في شهود المذكور عن وجودهم وعن ذكرهم، وفي هذا المقام ينقطع ذكر اللسان، ويصير العبد محواً في وجود العيان، فتكون عبادتهم كلها فكرة وعبرة، وشهوداً ونظرة، وهو مقام العيان في منزل الإحسان، فيكون ذكر اللسان عندهم بطالة، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

مَا إِنْ ذَكَرْتُكِ إلاّ همَّ يَلْعَنُني *** سِرِّي وَقَلْبِي وروحي، عند ذِكْرَاكَ

حَتَّى كَأَنَّ رَقيباً مِنْكَ يَهْتِفُ بِي‏:‏ *** إِيَّاكَ، وَيْحَك، والتَّذْكَارَ، إِيَّاكَ

أَمَا تَرَى الْحقَّ قَدْ لاَحَتْ شَوَاهِدُهُ‏؟‏ *** وَوَاصَلَ الْكُلَّ، مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ‏؟‏‏!‏

قال القشيري‏:‏ ويقال‏:‏ ذكر الله أكبر من أن يبقى معه ذكر مخلوق أو معلوم للعبد، فضلاً أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطان‏.‏ ه‏.‏ وقال في القوت على هذه الآية‏:‏ الذكر عند الذاكرين‏:‏ المشاهدة، فمشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة‏.‏ هذا أحد الوجهين في الآية‏:‏ ثم قال‏:‏ ورُوي في معنى الآية؛ عن رسول لله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنما فرضت الصلاة، وأمر بالحج والطواف، وأشعرت المناسك، لإقامة ذكر الله- عز وجل-» قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏، أي‏:‏ لتذكرني فيها‏.‏ ثم قال‏:‏ فإذا لم يكن في قلبك للمذكور، الذي هو المقصود والمُبْتغى، عظمة ولا هيبة، ولا إجلالُ مقامٍ، ولا حلاوة فهْم، فما قيمة ذكرك فإنما صلاتك كعمل من أعمال دنياك‏.‏ وقد جعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قسماً من اقسام الدنيا، إذ كان المصلي على مقام من الهوى، فقال‏:‏ «حُبب إليَّ من دنياكم‏.‏‏.‏» ذكر منها الصلاة، فهي دنيا لمن كان همه الدنيا، وهي آخرة لأبناء الآخرة، وهي صلة ومواصلة لأهل الله- عز وجل-، وإنما سميت الصلاة؛ لأنها صلة بين الله وعبده، ولا تكون المواصلة إلا لتقي، ولا يكون التقي إلا خاشعاً، فعند هذا لا يعظم عليه طول القيام، ولا يكبر عليه الانتهاء عن المنكر كما قال الله‏:‏ ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تُجادلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هي أحسن‏}‏؛ إلا بالخصلة التي هي أحسن، أي‏:‏ ألطف وأرفق، وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، بأن تدعوه إلى الله تعالى برفق ولين، وتبين له الحجج والآيات، من غير مغالبة ولا قهر‏.‏ وأصل المجادلة‏:‏ فتلُ الخصم عن مذهبه بطريق الحجج، وأصل‏:‏ شدة الفتل، ومنه قيل للصقر‏:‏ أجدل؛ لشدة فتل بدنه وقوة خلقه‏.‏ والآية؛ قيل‏:‏ منسوخة بآية السيف، وقيل‏:‏ نزلت في أهل الذمة‏.‏

‏{‏إلا الذين ظلموا منهم‏}‏، فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق فاستعمِلوا معهم الغلظة‏.‏ وقيل‏:‏ إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو‏:‏ إلا الذين أثبتوا الولد والشريك، وقالوا‏:‏ يد الله مغلولة‏.‏ أو معناه‏:‏ ولا تُجادلوا الذين دخلوا في الذمة، المؤدين للجزية، إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا‏:‏ فنبذوا الذمة، ومنعوا الجزية، فمجادلتهم بالسيف‏.‏ والآية تدل على جواز مناظرة الكفرة في الدين، وعلى جواز تعلم علم الكلام، الذي به تتحقق المجادلة‏.‏ قاله النسفي‏.‏ ‏{‏وقولو آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهُنا وإلهكم واحد‏}‏؛ هذا من حسن المجادلة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقالوا‏:‏ آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلاً؛ لم تصدقوهم، وإن كان حقاً؛ لم تكذبوهم» ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏؛ مطيعون له خاصة، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارَهُم ورهبانَهم أرباباً من دون الله‏.‏

الإشارة‏:‏ المناظرة بين العلماء، والمذاكرة بين الفقراء، ينبغي أن تكون برفق ولين على قلب سليم، بقصد إظهار الحق وتبيين الصواب، أو تنبيه عن الغفلة، أو ترقية في المنزلة، من غير ملاححة، أو مخاصمة، ولا قصد مغالبة؛ لأن العلم النافع، وذكر الله الحقيقي، يُهذب الطبع، ويحسن الأخلاق‏.‏

قال في الحاشية‏:‏ ثم تذكّر حسن رده صلى الله عليه وسلم للقائلين له‏:‏ السام عليكم، ورفقَه، وقوله لعائشة‏:‏ «متى عَهدْتِنِي فاحشاً»‏؟‏ يتبين لك مناسبة الوصية بحسن المجادلة في الآية مع ما قبلها، وأن ذلك حال المقيمين للصلاة، الذاكرين الله حقيقة، وأنهم على خُلق جميل وحلم وسمت، لا يستفزهم شيء من العوارض؛ لِمَا رسخ في قلوبهم من نور القُرب الذي محى الطبع وفُحْشه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏48‏)‏ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ ومثل ذلك الإنزال البديع ‏{‏أنزلنا إليك الكتاب‏}‏ مصدقاً لسائر الكتب السماوية وشاهداً عليها، ‏{‏فالذين آتيناهم الكتاب‏}‏؛ التوراة والإنجيل، ‏{‏يؤمنون به‏}‏، وهم عبد الله بن سلام ومن آمن معه، وأصحاب النجاشي، أو‏:‏ من تقدم عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، ‏{‏ومن هؤلاء‏}‏، من أهل مكة، ‏{‏من يؤمن به‏}‏، أو‏:‏ فالذي آتيناهم الكتب قبلك يؤمنون به قبل ظهوره، ومن هؤلاء الذين أدركوا زمانك من يؤمن به‏.‏ وإذ قلنا‏:‏ إِنّ السورة كلها مكية، يكون إخباراً بغيب تحقق وقوعه، ‏{‏وما يجحد بآياتنا‏}‏، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، ‏{‏إلا الكافرون‏}‏؛ إلا المتوغلون في الكفر، المصممون عليه، ككعب بن الأشرف وأضرابه، أو كفار قريش، إذا قلنا‏:‏ الآية مكية‏.‏

‏{‏وما كنت تَتْلوا من قبله‏}‏؛ من قبل القرآن ‏{‏من كتاب ولا تَخُطُّه بيمينك‏}‏، بل كنت أمياً، لم تقرأ ولم تكتب، فظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة، على يد أُمي؛ لم يُعْرَفْ بالقراءة والتعلم، خرق عادة، قاطعة لبغيته‏.‏ وذكر اليمين، لأن الكتابة، غالباً، تكون به، أي‏:‏ ما كنت قارئاً كتاباً من الكتب، ولا كَاتِباً ‏{‏إِذاً لارتابَ المبطلون‏}‏ أي‏:‏ لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا‏:‏ تعلمه، والتقطه من كتب الأقدمين، وكتبه بيده‏.‏ أو‏:‏ يقول أهل الكتاب‏:‏ الذي نجده في كتابنا أُمي لا يكتب ولا يقرأ، وليس به‏.‏ وسماهم مبطلين، لإنكارهم النبوة، أو‏:‏ لارتيابهم فيها، مع تواتر حججها ودلائلها‏.‏

هذا، وكونه صلى الله عليه وسلم أُمياً كَمَالٌ في حقه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أمياً أحاط بعلوم الأولين والآخرين، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية، من غير مدارسة ولا مطالعة، وهو، مع ذلك، يُخبر بما مضى، وبما يأتي إلى قيام الساعة، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفاذ من أحبارهم، الذي يقطع عمره في مدارسته وتعلمه، وهذا كله في جاهلية جهلاء، بَعُد فيها العهد بالأنبياء، وبدّل الناس، وغيَّروا في كتب الله تعالى؛ بالزيادة والنقصان، ففضحهم صلى الله عليه وسلم وقرر الشرائع الماضية، فهذا كله كاف في صحة نبوته، فكانت أميته صلى الله عليه وسلم وَصْفَ كمال في حقه، ومعجزةً دالة على نبوته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أُمياً، ظهر عليه من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، ما يعجز عنه العقول، ولا تُحيط به النقول، مع إحكامه لسياسة الخلق، ومعالجتهم، مع تنوعهم، وتدبير أمر الحروب، وإمامته في كل علم وحكمة‏.‏

وأيضاً‏:‏ المقصود من القراءة والكتابة‏:‏ ما ينتج عنهما من العلم؛ لأنهما آلة، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما‏.‏ والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتب قط‏.‏

وقال الباجي وغيره‏:‏ إنه كتب، لظاهر حديث الحديبية‏.‏ وقال مجاهد والشعبي‏:‏ ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ‏.‏ وهذا كله ضعيف‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل هو‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏آيات بيناتٌ في صدور الذين أُوتوا العلم‏}‏ اي‏:‏ في صدور العلماء وحُفاظه، وهما من خصائص القرآن كون آياتِ بيناتِ الإعجاز وكونه محفوظاً في الصدور، بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات، ولم تكن تُقرأ إلا بالمصاحف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏بل هو‏}‏ أي‏:‏ محمد، والعلم بأنه أُمي، ‏{‏آيات بينات‏}‏؛ في صدور أهل العلم من أهل الكتاب، يجدونه في كتبهم‏.‏ ه‏.‏ و‏(‏بل‏)‏‏:‏ للإضراب عن محذوف، ينساق إليه الكلام، أي‏:‏ ليس الأمر مما يمكن الارتياب فيه، بل هو آيات واضحات‏.‏ و‏(‏في صدور‏)‏‏:‏ متعلق ببينات، أو‏:‏ خبر ثان لهو‏.‏ ‏{‏وما يجحدُ بآياتنا‏}‏ الواضحة ‏{‏إلا الظالمون‏}‏؛ المتوغلون في الظلم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الظالمون والمبطلون هم كل مُكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عُظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم‏.‏ قاله مجاهد‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ كم من وليٍّ يكون أُمياً، وتجد عنده من العلوم والحِكَم والتوحيد ما لا يوجد عند نحارير العلماء‏.‏ ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علَّمه ولقد سمعت من شيخنا البوزيدي رضي الله عنه علوماً وأسراراً، ما رأيتها في كتاب، وكان يتكلم في تفسير آيات من كتاب الله على طريق أهل الإشارة، قلّ أن تجدها عند غيره، وسمعته يقول‏:‏ والله ما جلست بين يدى عالم قط، ولا قرأت شيئاً من العلم الظاهر‏.‏ قال القشيري‏:‏ قلوبُ الخواص من العلماء بالله خزائنُ الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سرِّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته، فقانون الحقائق في قلوبهم، وكلُّ شيء يُطلب من موطنه ومحله، فالدر يُطلب من الصدف؛ لأنه مسكنه، كذلك المعرفة، ووصف الحق يُطْلَبُ من قلوب خواصه؛ لأن ذلك قانون معرفته، ومنها ترفع نسخةُ توحيده‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي كفار قريش‏:‏ ‏{‏لولا أُنزل عليه آية من ربه‏}‏ تدل على صدقه، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، ونحو ذلك‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحفص‏:‏ بالجمع؛ «آيات»، كثيرة ‏{‏قل إنما الآيات عند الله‏}‏، يُنزل منها ما شاء متى شاء، ولست أملك منها شيئاً، ‏{‏وإنما أنا نذير مبين‏}‏؛ إنما كلفت بالإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس من شأني أن أقول‏:‏ أنزل على آية كذا دون آية كذا، مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة على نبوتي، والآيات كلها في حُكم آية واحدة في ذلك‏.‏ ‏{‏أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم‏}‏، أي أَوَلَمْ يكفهم إنزال آية مغنية عن سائر الآيات، إن كانوا طالبين للحق، غير متعنتين، وهو هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل زمان ومكان، فلا يزال معهم آية ثابته، لا تزول ولا تنقطع، كما انقطع غيره من الآيات، وفي ذلك يقوم البوصيري‏:‏

دامَتْ لَدَيْنا؛ فَفاقَتْ كلَّ مُعْجِزَةٍ *** مِنَ النَّبِيِّينَ، إِذْ جاءَتْ ولَمْ تَدُمِ

‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي‏:‏ هذه الآية الموجودة في كل زمان إلى آخر الدهر، ‏{‏لرحمة‏}‏؛ لنعمة عظيمة، ‏{‏وذكرى‏}‏؛ وتذكرة ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ من دون المتعنتين‏.‏ قال يحيى بن جعدة‏:‏ إن ناساً من المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بكتب قد كتبوها، فيها بعض ما يقول اليهود، فألقاها، وقال‏:‏ كفى بها حماقة، أو ضلالة قوم، أن يرغبوا عما جاء به نبيهم، فنزل‏:‏ ‏{‏أولم يكفهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏

‏{‏قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً‏}‏ أي‏:‏ شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وإنزال القرآن عليّ، وتكذبيكم، ‏{‏يعلم ما في السماوات والأرض‏}‏، فهو مطلع على أمري وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم، فلا يخفى عليه شيء‏.‏ ‏{‏والذين آمنوا بالباطل‏}‏، وهو ما يُعبد من دون الله، ‏{‏وكفروا بالله‏}‏ وبآياته منكم ‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏؛ المغبونون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر المؤدي إلى النيران، بالإيمان المؤدي إلى الخلود في الجنان‏.‏ رُوي أن كعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود قالوا‏:‏ من يشهد لك بأنك رسول الله‏؟‏ فنزل‏:‏ ‏{‏قل كفى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏

الإشارة‏:‏ اقتراح الآيات والكرامات كله جهل وحمق؛ إذ ليس بيد النبي أو الولي شيء من ذلك، وإنما هو مأمور بالوعظ والدلالة على الله، والدعاء إليه، والكرامة لا تدل على كمال صاحبها، «ربما رُزق الكرامة من لم تَكْمُلْ له الاستقامة»، ليس كل من ثبت تخصيصه كَمُلَ تخليصه‏.‏ وقد تظهر الكرامات في البدايات وتخفى في النهايات، والكرامة العظمى هي الاستقامة وكشف الحجاب بين الله وعبده حتى يشاهده عياناً، ويذهب عنه الأوهام والشكوك، وأما غير هذا فقد يكون استدراجاً لمن يقف معه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏53‏)‏ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏54‏)‏ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏، كقولهم‏:‏ أمطر علينا حجارة من السماء، ‏{‏ولولا أجلٌ مسمىًّ‏}‏ المضروب لعذاب كل قوم، أو‏:‏ القيامة، أو‏:‏ يوم بدر، أو‏:‏ وقت فنائهم بأجلهم‏.‏ والمعنى‏:‏ ولو أجل قد سمّاه الله وعيَّنه في اللوح المحفوظ، ‏{‏لجاءهم العذاب‏}‏ عاجلاً‏.‏ والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى، ‏{‏وليأتينهم‏}‏ العذاب في الأجل المسمى ‏{‏بغتةً‏}‏‏:‏ فجأة ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ بإيتانه‏.‏

‏{‏يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏ أي‏:‏ لتحيط بهم، أو‏:‏ هي كالمحيطة بهم، لإحاطة أسبابها بهم من الكفر والمعاصي‏.‏ واللام للعهد، على وضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على موجب الإحاطة، وهو الكفر، أو الجنس، فيدخل المخاطبون دخولاً أولياً‏.‏ وتكرير استعاجلهم؛ لاختلاف ما يترتب على كل واحد، فرتب على الأول حكمة تأخيره، وعلى الثاني تهديهم وزجرهم عنه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يغشاهم العذابُ من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏، هذا وقت إحاطتها بهم، أي‏:‏ تحيط من جميع جوانبهم، كقوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ‏{‏ويقولوا ذُوقوا ما كنتم تعملون‏}‏ أي‏:‏ باشروا جزاء أعمالكم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل في حق استعجل العذاب من الأنبياء، يقال في حق استعجله من الأولياء، بحيث يؤذيهم ويقول‏:‏ ليُظهروا ما عندهم، فهذا حمق كبير، ولا بد أن يلحقه وبال ذلك، عاجلاً، أو آجلاً، إما ظاهراً أو باطناً، وقد لا يشعر، وقد يسري ذلك إلى عَقبه، فيصيبه ذلك الوبال، كما أصاب أباه والعياذ بالله من التعرض لأوليائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏58‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعةً‏}‏، فإذا لم يتيسر لكم إقامةُ دينِكُمْ في بلد، فاخرجوا منها إلى أرض يتهيأ لكم فيها استقامة دينكم، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً، والناس مختلفون، فأهل الشرائع يطلبون البقاع التي يتيسر لهم فيها استقامة ظواهرهم، كالمدن والقرى الكبار، التي يكثر فيها العلم وأهله‏.‏ وأهل الحقائق من الصوفية يطلبون البقاع التي تسلم فيها قلوبهم من العلائق والشواغل، أينما وجدوها عمروها، إن تهيأ لهم الاجتماع على ربهم‏.‏ وعن سهل رضي الله عنه‏:‏ إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض، فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين‏.‏ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من فرّ بدينه من أرض، إلى ارض وإن كان بشيراً، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام»‏.‏

‏{‏فإياي فاعبدون‏}‏ أي‏:‏ فخصوني بالعبادة‏.‏ وإياي‏:‏ مفعول لمحذوف، ومفعول «اعبدوني»‏:‏ الياء المحذوفة، أي‏:‏ فاعبدوا إياي، فاعبدوني‏.‏ والفاء‏:‏ جواب الشرط، محذوف، إذ المعنى، إن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فاخلصوا لي في غيرها‏.‏

ثم شجع المهاجرين بقوله‏:‏ ‏{‏كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت‏}‏، أي‏:‏ واجدة مرارته وكربه؛ لأنها إذا تيقنت بالموت؛ سهل عليها مفارقة وطنها‏.‏ ‏{‏ثم إلينا تُرجعون‏}‏ بالموت، فتجاوزن على ما أسلفتم‏.‏ ومن عَلِمَ أن هذا عاقبته، ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له، فإن لم يتهيأ في أرض فليهاجر منها‏.‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم‏}‏؛ لنُنزلنهم ‏{‏من الجنة غُرَفاً‏}‏؛ علالي، عالية، وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏لنثوينهم‏}‏؛ لنقيمنهم، من الثَّوَى، وهو الإقامة، وثوى‏:‏ غَيْرُ متعد، فإذا تعدى؛ بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولاً واحداً‏.‏ والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف‏:‏ إما إجراؤه مجرى «لننزلنهم»، أو‏:‏ بحذف الجار، وإيصال الفعل، أو‏:‏ شبه الظرف المؤقت، بالمبهم، أي‏:‏ لنقيمنهم في غرف ‏{‏تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها نِعْمَ أجرُ العاملين‏}‏ أجرهم هذا‏.‏ وهم ‏{‏الذين صبروا‏}‏ على مفارقة الأوطان وأذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، ومشاق الطاعات، وترك المحرمات، ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏، أي‏:‏ لم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله، فكفاهم شأنهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من لم يَتَأَتَّ له جَمْعُ قَلْبِهِ في بلده؛ فليهاجر منها إلى غير، وليسمع قول سيده‏:‏ ‏{‏يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة‏}‏، فإن شق عليه مفارقة الأوطان، فليذكر مفارقته للدنيا في أقرب زمان‏.‏ وكان الصدِّيق رضي لَمَّا هاجر إلى المدينة، وأصابته الحمى، يتسلى بذكر الموت، ويُنشد‏:‏

كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلهِ *** والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وقد أكثر الناس في الوعظ بالموت وهجومه، نظماً ونثراً، فمن ذلك قول الشاعر‏:‏

المَوْتُ كَأسٌ، وكُلُّ النَاس شَارِبُه *** والقَبْرُ بَابٌ، وكُلُّ الناس دَاخِلُهُ

وقال آخر‏:‏

اعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاطِعَةٌ *** بِكُلِّ مُدِّرع فِيهَا وَمُتَّرِسِ

ركوبُك النعشُ يُنْسِيكَ الرُّكُوبَ إلى *** مَا كُنْتَ تَرْكَبُ مِنْ نَعْلٍ ومَنِ فَرَسِ

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيَقَتَهَا *** إنَّ السَّفَينَةَ لاَ تَجْرِيَ علَى يَبَسِ

إلى غير ذلك مما يطول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 63‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏62‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وكأيِّن من دابة‏}‏ أي‏:‏ وكم دابة من داوب الأرض، عاقلة وغير عاقلة، ‏{‏لا تحملُ رِزْقَها‏}‏؛ لا تطيق أن تحمله؛ لضعفها عن حمله، ‏{‏اللهُ يرزقها وإياكم‏}‏ أي‏:‏ لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا الله، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها؛ لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها، لكنتم أعجز من الدواب‏.‏ وعن الحسن‏:‏ ‏{‏لا تحمل رزقها‏}‏‏:‏ لا تدخره، إنما تصبح خِمَاصاً، فيرزقها الله‏.‏ وقيل‏:‏ لا يدخر من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة‏.‏ ‏{‏وهو السميع‏}‏ لقولكم‏:‏ نخشى الفقر والعيْلة إن هاجرنا، ‏{‏العليم‏}‏ بما في ضمائركم من خوف فوات الرزق‏.‏

ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ أي‏:‏ المشركين وغيرهم ‏{‏مَنْ خَلَقَ السماوات والأرض‏}‏ على كبرهما وسعتهما، ‏{‏وسخَّرَ الشمسَ والقمرَ‏}‏ يجريان في فلكهما، ‏{‏ليقولُنَّ اللهُ‏}‏؛ لا يجدون جواباً إلا هذا، لإقرارهم بوجود الصانع، ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏؛ فكيف يُصرفون عن توحيد الله‏؟‏ مع إقرارهم بهذا كله، إذ لوتعدد الإله لفسد نظام العالم‏.‏

‏{‏الله يَبسُطُ الرِزْقَ لمن يشاءُ من عباده‏}‏ هاجر أو أقام في بلده، ‏{‏ويقدرُ له‏}‏؛ ويضيق عليه، أقام أو هاجر، فالضمير في ‏{‏له‏}‏ لمن يشاء؛ لأنه مبهم غير معين، ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏؛ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، فمنهم من يصله الفقر، ومنهم من يُفسده، ففي الحديث القدسي‏:‏ «إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلى الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» ذكره النسفي‏.‏

‏{‏ولئن سألتهم من نزَّل من السماءِ ماء فأحيا به الأرضَ من بعد موتها ليقولن اللهُ‏}‏؛ معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها، أصولها وفروعها، ثم إنهم يُشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء‏.‏ ‏{‏قل الحمد لله‏}‏ على إظهار قدرته، حتى ظهرت لجميع الخلق، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء‏.‏ أو‏:‏ على ما عصمك مما هم عليه، أو‏:‏ على تصديقك وإظهار حجتك، أو‏:‏ على إنزاله الماء لإحياء الأرض، ‏{‏بل أكثرُهُم لا يعقلون‏}‏؛ لا عقول لهم، فلا يتدبرون فيما يُريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الرزق مضمون بيد من أَمْرِ بين الكاف والنون، لا يزيد بحرص قوي، ولا ينقص بعجز ضعيف، بل قد ينعكس الأمر، كما الشاعر‏:‏

كَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ في تقلبه *** ترى عَنْهُ أَمْرَ الرَّزْقِ يَنْحَرفُ

وكم ضعيفٍ ضعيفٍ في تصرفه *** كأنه من خليجِ البحرِ يَغْتَرِفُ

وقد يبسطه الله لأهل الغفلة والبُعد، ويقدره لأهل الولاية والقُرب، كما قال القائل‏:‏

اللهَ يَرْزُق قَوْماً لاَ خَلاَقَ لَهُمْ *** مِثْلَ الْبَهَائِمِ في خَلْقِ التَّصَاوِيرِ

لَوْ كَانَ عَنْ قُوَّةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ *** طَارَ البُزَاةُ بِأرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ

وقال عليه الصلاة والسلام- في بعض خطبه-‏:‏ «أيها الناس، إن الرزق مقسوم، لن يعدو امْرُؤٌ ما كُتِبَ له، فاتقوا الله، وأَجْمِلُوا في الطَلَبِ‏.‏ وإن الأمر محدود، لن يجاوز أحد ما قُدر له، فبادروا قبل نفود الأجل، وإن الأعمال محصاة، لن يُهْمَلَ منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، فأكثروا من صالح الأعمال‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو توكلتمْ على الله حقَّ توكلِهِ، لرَزقتم كما تُرزق الطير؛ تغدو خِمَاصاً وتروح بِطَانا»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 66‏]‏

‏{‏وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏64‏)‏ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏65‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما هذه الحياةُ الدنيا إلا لهوٌ ولعب‏}‏ أي‏:‏ وما هي؛ لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها، إلا كما يلعب الصبيان ساعة، ثم يفترقون متعبَين بلا فائدة‏.‏ وفيه ازدراء بالدنيا وتحقير لشأنها، وكيف لا يحقرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة‏؟‏ واللهو‏:‏ ما يتلذذ به الإنسان، فيلهيه ساعة، ثم ينقضي‏.‏ ‏{‏وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان‏}‏، أي‏:‏ الحياة الحقيقية؛ لأنها دائمة‏.‏ والحيوان‏:‏ مصر، وقياسه‏:‏ حيَيَان، فَقَلَبَ الياءَ الثانية واواً‏.‏ ولم يقل‏:‏ لهي الحياة؛ لِمَا في بناء فَعَلاَن من معنى الحركة والاضطراب‏.‏ وفي المصباح‏:‏ الحيوان‏:‏ مبالغة في الحياة، كما قيل‏:‏ للموت الكثير مَوَتَان‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ حقيقة الدارين؛ لَمَا اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي‏.‏

‏{‏فإذا رَكِبُوا في الفلك‏}‏، هو مرتب على محذوف، دل عليه ما وصفهم به قَبْلُ، والتقدير‏:‏ هم على ما هم عليه من الشرك والعناد، وإذا ركبوا في الفلك ‏{‏دَعَوا الله مخلصين له الدين‏}‏، أي‏:‏ كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلهاً آخر، ‏{‏فلما نجاهم إلى البر‏}‏، وأمنوا من الغرق، ‏{‏إذا هم يُشركون‏}‏، أي‏:‏ عادوا إلى حال الشرك، ‏{‏ليكفروا بما آتيناهم‏}‏ من النعمة، ‏{‏وَلِيَتَمَّتعوا‏}‏ باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها‏.‏ واللام فيهما‏:‏ إما لاَمُ كي، أي‏:‏ يعودون إلى شركهم؛ ليكونوا به كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير على خلاف عادة المؤمنين المخلصين فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى توحيده وطاعته لا إلى التلذذ والتمتع‏.‏ أو‏:‏ لام الأمر، علة وجه التهديد، كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏، ويقويه‏:‏ قراءةُ مَنْ سَكَّنَ الثانية، أي‏:‏ ليكفروا وليتمتعوا ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ تدبيرهم عند تدميرهم‏.‏

الإشارة‏:‏ الدنيا عند أهل الجد والاجتهاد جد، يتوصلون فيها إلى معرفة الحق، ويترقون منها إلى أسرار ومعارف لا يحصرها عقل؛ ولا يحيط بها نقل، لأن في هذه الدار‏:‏ عرفه من عرف، وجَهِلَهُ من جهله‏.‏ والترقي عند العارفين فيها أكثر؛ لأنه يسير بين جلاله وجماله، وهناك ليس إلا الجمال، والترقي بين الضدين أعظم، فإذا مات بقي يترقى في أنوار الجمال على قدر ما أدرك هنا‏.‏ والله أعلم‏.‏

فتحصل أن الدنيا في حق أهل الغفلة لعب ولهو؛ لأنها شغلتهم وغرتهم بزخارفها عن معرفة الله والوصول إليه، ولذلك حذّر منها صلى الله عليه وسلم، فقد قال في بعض خطبه‏:‏ «أيها الناس، لا تكونوا ممن خَدَعَتْهُ العاجلة، وغرته الأمنية، واستهوته الخدعة، فركن إلى دار سريعة الزوال، وشيكة الانتقال؛ إذ لن يبقى من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب، أو درّ حالب، فعلام تعرجون‏؟‏ وما تنتظرون‏؟‏ فكأنكم، والله، بما قد أصبحتم فيه من الدنيا، كأن لم يكن، وما تصيرون إليه من الآخرة، لم يزل، فخذوا في الأهْبة لأزُوف النقلة، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، واعلموا أن كل إمرىء على ما قَدَّمَ قادِمٌ، وعلى ما خَلَّفَ نادمٌ» وفي حق أهل الجد جدٌ وحق؛ لأنها مزرعة للآخرة، ومتجر من أسواق الله، فيها ربحهم وغنيمتهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏67‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوا‏}‏ أي‏:‏ أهل مكة ‏{‏أنا جعلنا‏}‏ بلدهم ‏{‏حَرَماً‏}‏ أي‏:‏ ممنوعاً مصوناً من الهبب، ‏{‏آمِنا‏}‏؛ يأمن كل من دخله، أو آمناً أهله من القتل والسبي، ‏{‏ويُتَخَطّفُ الناس من حولهم‏}‏ أي‏:‏ يخطف بعضهم بعضاً، قتلاً وسبياً، إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب، ‏{‏أفبالباطل يؤمنون‏}‏؛ أبعد هذه النعمة العظمى يُؤمنون بالأصنام ويعبدونها، أو‏:‏ الشيطان، ‏{‏وبنعمة الله يكفرون‏}‏؛ حيث أشركوا به غيْرَهُ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو النعمة المهداة، أو‏:‏ الإسلام‏.‏ وتقديم المعمولين؛ للاهتمام، أو للاختصاص‏.‏

‏{‏ومَنْ أظلمُ‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم ‏{‏ممن افترى على لله كذباً‏}‏؛ بأن جعل له شريكاً، ‏{‏أو كذّب بالحق‏}‏؛ الرسول صلى الله عليه وسلم، أو‏:‏ الكتاب، ‏{‏لمَّا جاءه‏}‏ أي‏:‏ لم يتعلثموا في تكذيبه لَمّا سمعوه، وفي «لَمَّا»، المقتضية للاتصال، تسفيه لرأيهم، حيث لم يتوقفوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه‏.‏ ‏{‏أليس في جهنم مَثْوىً‏}‏؛ مقاماً ‏{‏للكافرين‏}‏، وهو تقرير لمثواهم في جهنم، لأن همزة الإنكار، إذا دخلت على النفي، صار إثباتاً، كقوله‏:‏

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا *** أي‏:‏ أتم خير من ركب المطايا، والتقدير‏:‏ ألا يستوجبون الثوى فيها‏؟‏ وقد افتروا مثل هذه العظيمة، كذبوا على الله وكذّبوا بالحق الذي جاء من عنده، أو‏:‏ ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين‏؟‏ حين اجترأوا مثل هذه الجرأة، بل لهم فيها مثوى وإقامة‏.‏ وهذه الآية في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 58‏]‏‏.‏ لا سيما في قراءة الثاء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الحرم الآمن، في هذه الدار، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها، والتجريد من أسبابها، فمن دخله أَمِنَ ظاهراً وباطناً، ومن هجرها، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها، وهو يتفرج عليهم، فالدنيا جيفة والناس كلابها، فإن خالطتهم ناهشوك، وإن تركت لهم جيفتهم سَلِمتَ منهم، فمن كذّب بهذا فقد كذَّب بالحق وآمن بالباطل، فلا أحد أظلم منه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فينا‏}‏، أطلق المجاهدة، ولم يُقيدها بمفعول؛ ليتناول من تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين، أي‏:‏ جاهدوا نفوسَهم في طلبنا أو في حقنا، ومن أجلنا، ولوجهنا، خالصاً، ‏{‏لنهدينهم سُبلنا‏}‏ أي‏:‏ طُرُق السير إلينا، والوصول إلى حضرتنا، أو لنسهلنهم فعل الخير حتى يصلوا إلى جنابنا‏.‏

وعن الداراني‏:‏ والذين جاهدوا بأن عملوا بما علموا، لنهدينهم إلى علم ما لم يعلموا‏.‏ وقال الفضيل‏:‏ والذين جاهدوا في طلب العلم، أي‏:‏ لله، لنهدينهم سبل العمل‏.‏ وقال سهل‏:‏ والذين جاهدوا في إقامة السنَّنَّة، لنهدينهم سبل الجنة‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ جاهدوا في إرضائنا؛ لنهدينهم سبل الوصول إلى محل الرضوان‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سُبل ثوابنا‏.‏

وقال الجنيد‏:‏ جاهدوا في التوبة، لنهديهم سُبل الإخلاص، أو‏:‏ جاهدوا في خدمتنا؛ لنمنحنهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا، ‏{‏وإن الله لمع المحسنين‏}‏ بالنصر والمعونة في الدنيا، وبالثواب والمغفرة في العُقبى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ المجاهدة، على قدرها تكون المشاهدة، فمن لا مجاهدة له لا مشاهدة له‏.‏ وبالمجاهدة تميزت الخصوص من العموم، وبها تحقق سير السائرين، فالعموم وقفوا مع موافقة حظوظهم؛ من الجاه والغنى وغيره والخصوص خالفوا نفوسهم ورفضوا حظوظهم، وخرقوا عوائدهم، فَخُرِقَتْ لهم العوائد، وانكشفت عنهم الحجب، وشاهدوا المحبوب‏.‏ فجاهدوا أولاً في ترك الدنيا، وتحملوا مرارة الفقر، حتى تحققوا بمقام التوكل، ثم جاهدوا في ترك الجاه والرئاسة، فتحققوا بالخمول، وهو أساس الإخلاص، ثم جاهدوا في مخالفة النفس، فَحَمَّلوها كل ما يثقل عليها، وأخرجوها من كل ما تهواه ويخف عليها، وارتكبوا في ذلك أهوالاً وأحوالاً صِعَاباً، حتى ماتت نفوسهم مَوْتَاتٍ، فتحقق بذلك حياة أرواحهم، وأشرفت على البحر الزاخر، بحر التوحيد الخاص، فغابت ظلال الأكوان حين أشرقت شمس العيان، ففني من لم يكن، وبقي من لم يزل، فدخلوا جنة المعارف، ولم يشتاقوا قط إلى جنة الزخارف؛ لأنها منطوية فيها‏.‏ ولا بد من صحبة شيخ كامل، قد سلك هذه المسالك، يلقيه زمام نفسه، حتى يوصله إلى ربه، وإلا أتعب نفسه بلا فائدة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الله لمع المحسنين‏}‏؛ تهوينٌ وتسهيلٌ على السائرين أَمْرَ نفوسِهِمْ ومجاهدَتَها، إذا علموا أن الله معهم، هان عليهم كل صعب، وقَرُبَ كل بعيد‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

سورة الروم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ غُلِبَتِ الرُّومُ ‏(‏2‏)‏ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ‏(‏3‏)‏ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏4‏)‏ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ بعد التسمية ‏{‏الام‏}‏ أي‏:‏ أيها المصطفى، أو‏:‏ المرسل، ‏{‏غُلبت الرومُ‏}‏ أي غلبت فارسُ الرومَ ‏{‏في أدنى الأرض‏}‏ أي‏:‏ في أقرب أرض العرب؛ لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم، أي‏:‏ غلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام‏.‏ أو أراد أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي‏:‏ في أدنى أرضهم إلى عدوّهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قرأ الجمهور‏:‏ «غُلبت»؛ بضم الغين‏.‏ وقالوا‏:‏ معنى الآية‏:‏ أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزَم جيشَ الروم بأذرعاتِ، وهي أدنى أرض الروم إلى مكة، فسُر لذلك كفارُ قريش، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون‏.‏ ه‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي‏:‏ الروم ‏{‏من بعد غَلَبِهم‏}‏، وقرئ‏:‏ بسكون اللام؛ كالحلَب والحلْب، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي‏:‏ وهم من بعد غلبة فارس إياهم ‏{‏سيَغْلِبون‏}‏ فارس، وتكون الدولة لهم‏.‏

وذلك ‏{‏في بِِضْعِ سنين‏}‏، وهو ما بين الثلاث إلى العشر‏.‏ قال النسفي‏:‏ قيل‏:‏ احتربت الروم وفارس، بين أذرعاتِ وبُصرى، فغلبت فارسُ الروم، والمَلِكُ بفارس، يومئذٍ، كسرى «أبرويز»، فبلغ الخبر مكة، فشقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنَّ فارسَ مجوسٌ؛ لا كتاب لهم، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون وشمتوا، وقالوا‏:‏ أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن فارس أُمِّيُّون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنَّ نحن عليكم فنزلت الآية‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ والله ليَظْهَرَنَّ الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أُبَيُّ بنُ خلف‏:‏ كذبت، فناحبه- أي‏:‏ قامره- على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعل ثلالث سنين، فأخبر أبو بكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «زِدْ في الخطر وأبعد في الأجل»، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يو أحد وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، أو‏:‏ يوم بدر، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أُبَيَّ، فقال عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «تصدَّقْ به»‏.‏

وهذه آية بينة على صحة نبوته، وأن القرآن من عند الله؛ لأنها إنباء عن علم الغيب‏.‏ وكان ذلك قبل تحريم القمار، عن قتادة‏.‏ ومذهب ابي حنيفة ومحمد- رضي الله عنهما-‏:‏ أن العقود الفاسدة؛ كعقد الربا وغيره، جائز في دار الحرب بين المسلمين والكفار، واحتجا بهذه القصة‏.‏ ه‏.‏ زاد البيضاوي‏:‏ وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار‏.‏ ه وقرئ‏:‏ «غلبت»؛ بالفتح، «وسيُغلبون» بالضم، ومعناه‏:‏ أن الروم غَلَبُوا على ريف الشام، وسيغلبهم المسلمون، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا يكون إضافة الغلَب إلى الفاعل‏.‏

‏{‏لله الأمرُ من قبلُ ومن بعد‏}‏ أي‏:‏ من قبل كل شيء، ومن بعد كل شيء‏.‏ أو‏:‏ من قبل الغلبة وبعدها، كأنه قيل‏:‏ من قبل كونهم غالبين- وقبله‏:‏ وهو وقت كونهم مغلوبين- ومن بعد كونهم مغلوبين- وهو وقت كونهم غالبين، يعني‏:‏ أن كونهم مغلوبين أولاًُ، وغالبين آخراً، ليس إلا بأمر الله وقضائه‏.‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏ ‏{‏ويومئذٍ‏}‏ أي‏:‏ ويوم تغلب الرومُ فارسَ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم، ‏{‏يفرح المؤمنون بنصر الله‏}‏، وتغلب من له كتاب على مَن لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة‏.‏

وقيل‏:‏ نصر الله‏:‏ هو إظهار صدق المؤمنين، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم‏.‏ ‏{‏ينصُر من يشاء‏}‏ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى، ‏{‏وهو العزيزُ‏}‏‏:‏ الغالب على أعدائه ‏{‏الرحيمُ‏}‏‏:‏ العاطف على أوليائه‏.‏

‏{‏وَعْدَ اللهِ‏}‏ اي‏:‏ وعد ذلك وعداً، فسينجزه لا محالة، فهو مصدر مؤكّد لِمَا قبله؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏سيغلبون‏}‏ وعد، ‏{‏لا يُخْلِفَ الله وعْدَه‏}‏؛ لامتناع الكذب عليه تعالى، فلا بد من نصر الروم على فارس‏.‏ ‏{‏ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون‏}‏ صحة وعده، وأنه لا يُخلف، أو‏:‏ لا يعلمون أن الأمور كلها بيد الله؛ لجهلهم وعدم تفكرهم‏.‏ وإنما ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا‏}‏؛ ما يشاهدونه منها من التمتع بزخارفها‏.‏ وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها‏:‏ ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها‏.‏ قال بعض الحكماء‏:‏ إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار، فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار، وسجن الإبرار، ومجلس الأشرار، الدنيا كالحية، تجمع سموم نوائبها، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها‏.‏ ه‏.‏ وباطنها‏:‏ أنها مجازٌ إلى الآخرة، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة‏.‏ وتنكير ‏(‏ظاهِراً‏)‏‏:‏ مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها‏.‏ ‏{‏وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏؛ لا تخطر ببالهم، ولا يتفكرون في أهوالها ونوائبها‏.‏ فهم، الثانية‏:‏ مبتدأ، و‏(‏غافلون‏)‏‏:‏ خبره، والجملة‏:‏ خبرالأولى، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كما تقع الدولة بين الأشباح، تقع بين النفوس والأرواح‏.‏ فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح، فتحجبها عن الله، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس، فتستر ظلمة حظوظها، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده‏.‏ آلم‏.‏ غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس في أدنى أرض العبودية وهم من بعد غلبهم سيغلبون فتغلب أنوار الأرواح المطهرة، على ظلمة نفوس الظلمانية، وذلك في بضع سنين، مدة المجاهدة، والبُضع‏:‏ من ثلاث إلى عشر، على قدر الجد والاجتهاد، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة‏.‏ لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله، حيث نصرهم على نفوسهم، فظفروا بها‏.‏

ينصر من شاء حيث يشاء وهو العزيز الرحيم‏.‏ قال بعضهم‏:‏ انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا‏.‏ ه‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏غُلبت الروم‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، إشارة إلى أن الأرواح، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة، والشياطين الكافرة؛ امتحاناً من الله، وتربيةً لها بمباشرة القهريات، فإنها تغلب على النفوس، من حيث تخرج من مقام الاختيار‏.‏ انظر تمامه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا‏}‏‏:‏ استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة وقيمة كل امرىءٍ عِلمُه؛ كما في الأثر عن عليّ رضي الله عنه‏.‏ قال‏:‏

وَقِيمَةُ كُلِّ امْرِىءٍ مَا كَانَ يُتْقِنُهُ *** والجاهلون لأهلِ العِلْمِ أعداءُ

فأهل الدنيا في غفلة عن الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة، هم بوجودها، في غفلة عن الله‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «في أنفسهم»‏:‏ يحتمل أن يكون ظرفاً، أي‏:‏ أَوَ لمْ يحدثوا التفكر فيها، وأن تكون صلة للتفكر، نحو‏:‏ تفكر في الأمر‏:‏ أجال فيه فكره‏.‏ والأول أظهر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكروا في أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ أَوَ لَمْ يثبتوا التفكر في أنفسهم، أي‏:‏ في قلوبهم الفارغة، فيتفكروا بها في مصنوعات الله، حتى يعلموا أنها ما خُلِقَتْ عبثاً، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكن زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقوله‏:‏ اعتقده في قلبك‏.‏ أو‏:‏ أَوَلَمْ يتفكروا في أنفسهم، التي هي أقرب إليهم من غيرها، وهم أعلم بأحوالها، فيتدبروا ما أودعها الله تعالى، ظاهراً وباطناً، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير من الحكيم القديم، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت تجازي فيه، على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا، عند ذلك، أن سائر الخلائق مثلها، وأنه لا بُدَّ لهم من الانتهاء إلى ذلك الوقت، فعلموا أن ‏{‏ما خَلَقَ الله السماواتِ والأرض وما بينهما إلا بالحقِ وأَجَلٍ مُّسَمىًّ‏}‏ أي‏:‏ ما خلقها باطلاً وعبثاً من غير حكمة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة البالغة، وتنتهي إلى أجل مسمى، وهو قيامُ الساعة، ووقت الحساب، بالثواب والعقاب، فيخرب هذا العالم، ويقوم عالم آخر، لا انتهاء لوجوده‏.‏

قال في الحاشية الفاسية‏:‏ وبالجملة‏:‏ فخلقُ السموات والأرض؛ للدلالة على التوحيد بوجودهما، وعلى الآخرة بفنائهما، وانقضاء أجلهما‏.‏ ثم قال‏:‏ والحاصل أن خلقه بمقتضى الحكمة يقتضي جزاء أوليائه، وتعذيب أعدائه‏.‏ وقد نصب تعالى القلب شاهداً ومُنزلاً منزلة الآخرة، والقلب منزلة الدنيا، وكما أن عمل القالب يعود نفعه، إذا فعل الطاعة، على القلب؛ بالتنوير والتقريب لحضرة الربوبية، ويعود ضرره عليه، إذا فعل ضد ذلك، كما يعرفه أهل القلوب، وأنه مزرعة للقلب، ولا بقاء له، وإنما خلق لقضاء ذلك، فكذلك الدنيا مزرعة للآخرة، وإنما خلقت لذلك، كما يعرفه أهل القلوب والبصائر الصافية السالمة، فاعتبر ذلك‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم‏}‏؛ بالبعث والجزاء ‏{‏لكافرون‏}‏‏:‏ لجاحدون‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم الكلام على فضل التفكر في آل عمران‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا بالحق‏}‏ أي‏:‏ ما خلق الكائنات إلا بالحق، من الحق إلى الحق، فهي من تجليات الحق، ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فالحق عبارة عن عين الذات عند أهل الحق، فافهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من رفع «عاقبة الذين أساءوا»؛ فالسوأى منصوب خبر كان، ومن نصب «عاقبة»؛ فالسُّوأى‏:‏ مرفوع اسمها، أو‏:‏ مصدر لأساؤوا‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏ والسُّوأى‏:‏ تأنيث أسوأ‏.‏ و‏(‏أن كذبوا‏)‏‏:‏ مفعول من أجله، أو‏:‏ بدل، على أن معنى ‏(‏أساءوا‏)‏‏:‏ كفروا‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أوَ لَمْ يَسيروا‏}‏ اي‏:‏ أَعَمُوا ولم يسيروا ‏{‏في الأرض‏}‏، ثم قرره بقوله‏:‏ ‏{‏فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم‏}‏ أي‏:‏ فينظروا إلى آثار الذين من قبلهم؛ كيف دمرهم الله، وأخلا بلادهم، وبقيت دارسة بعدهم، كعاد وثمود، وغيرهم من الأمم العاتية، والجبابرة الطاغية، ‏{‏كانوا أشدَّ منهم قوةً‏}‏ حتى كان منهم من يفتل الحديد بيده، ‏{‏وأثاروا الأرض‏}‏؛ قلبوا وجهها بالحراثة، واستنباط المياه، واستخراج المعادن، وغير ذلك‏.‏ ‏{‏وعَمَروها‏}‏ اي‏:‏ عمرَ المدمَّرون الأرض ‏{‏أكثرَ مما عَمَروها‏}‏ أي‏:‏ أهل مكة، فأكثر‏:‏ صفة لمصدر محذوف‏.‏ و‏(‏ما‏)‏‏:‏ مصدرية، أي‏:‏ عمارة هؤلاء، فإنهم أهل واد غير ذي زرع، ولا تَبَسُّطَ لهم في غيرها‏.‏ وفيه تهكم بهم؛ من حيث أنهم عمروا الأرض، مغترون بالدنيا، مفتخرون بها، وهو أضعف حالاً فيها؛ إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد، والتسلط على العباد، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، وهم ضعفاء مُلْجؤونَ إلى واد لا نفع فيه‏.‏ قال البيضاوي‏.‏

‏{‏وجاءتهم رسلُهم بالبينات‏}‏؛ بالمعجزات الواضحات، فلم يؤمنوا؛ فأُهلِكوا، ‏{‏فما كان الله ليظلمهم‏}‏؛ بأن دمرهم بلا سبب، أو‏:‏ من غير إعذار، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏؛ حيث ارتكبوا ما أدى إلى تدميرهم‏.‏

‏{‏ثم كان عاقبةُ الذي أساءوا‏}‏ بالكفر والمعاصي ‏{‏السُّوأى‏}‏ أي‏:‏ العقوبة السوأى، والأصل‏:‏ ثم كان عاقبتهم، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم، وهو إساءتهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كان عاقبتهم في الآخرة العقوبة التي هي أسوأ العقوبات، وهي انار التي أُعدت للكافرين‏.‏ لأجل ‏{‏أن كذَّبوا‏}‏ أو‏:‏ بأن كذَّبوا ‏{‏بآيات الله‏}‏ الدالة على صدق رسله، أو‏:‏ على وحدانيته‏.‏ ‏{‏وكانوا بها يستهزؤون‏}‏؛ حيث قابلوها بالتكذيب، أو‏:‏ غفلوا عن التفكر فيها‏.‏ أو‏:‏ ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة السُّؤاى أن طبع الله على قلوبهم، حتى كذّبوا بالآيات، واستهزءوا بها‏.‏ أو‏:‏ ثم كان عاقبة الذين فعلوا الفعلة السوأى، وهو أن كذّبوا واستهزءوا، أن يلحقهم ما تعجز عنه نطاق العبارة، فخبر كان، على هذا‏:‏ محذوف؛ للتهويل‏.‏ و‏(‏أن كذبوا‏)‏‏:‏ بيان، أو‏:‏ بدل من السوأى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ السير إلى الله على أقسام‏:‏ سَيْرُ النفوس‏:‏ بإقامة عبادة الجوارح؛ لطلب الأجور، وسَيْرُ القلوب‏:‏ بجَولاَنها في ميادين الأغيار، للتبصر والاعتبار، طلباً للحضور، وسير الأرواح‏:‏ بجولان الفكرة في ميادين الأنوار؛ طلباً لرفع الستور ودوام الحضور، وسير الأسرار‏:‏ الترقي في أسرار الجبروت، بعد التمكن من شهود أنوار الملكوت على سبيل الدوام‏.‏

قال القشيري‏:‏ سَيْرُ النفوس في أوطان الأرض ومناكبها لأداء العبادات، وسَيْرُ القلوب بجَوَلاَن الفكْر في جميع المخلوقات، وغايته‏:‏ الظَّفَرُ بحقائق العلوم التي تُوجبُ ثلج الصدور- ثم تلك العلوم علىدرجات- وسَيْرُ الأرواح في ميادين الغيب‏:‏ بِنَعْتِ خَرْقِ سُرَادِقَات الملكوت‏.‏ وقُصَاراه‏:‏ الوصولُ إلى ساحل الشهود، واستيلاء سلطان الحقيقة‏.‏ وسَيْرُ الأسرار‏:‏ بالترقي- أي‏:‏ الغيبة- عن الحِدْثان بأَسْرها، والتحقق، أولاً، بالصفات، ثم بالخمود، بالكلية، عمَّا سوى الحق‏.‏ ه‏.‏

وقال في قوله‏:‏ ‏{‏ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السُّوأى‏}‏‏:‏ من زَرَعَ الشوكَ لم يحصدُ الوَرْدَ، ومَنْ استنبت الحشيش لم يقطف البهار، ومَنْ سَلَكَ سبيل الغيّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏الله يَبدأُ الخلقَ‏}‏؛ ينشئهم، ‏{‏ثم يُعيده‏}‏؛ يحييهم بعد الموت، ‏{‏ثم إليه تُرْجَعونَ‏}‏؛ للجزاء؛ بالثواب والعقاب‏.‏ والالتفات إلى الخطاب؛ للمبالغة في إثباته‏.‏ وقرأ أبو عمرو وسهل وروح‏:‏ بالغيب، على الأصل‏.‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يُبْلِسُ‏}‏‏:‏ ييأس ويتحير ‏{‏المجرمون‏}‏؛ المشركون؛ يُقال‏:‏ ناظرته فأبلس، أي‏:‏ أُفْحِمَ وأَيِسَ من الحجة، أو‏:‏ يسكتون متحيرين، ‏{‏ولم يكنُ لهم من شركائهم‏}‏ التي عبدوها من دون الله ‏{‏شفعاء‏}‏ يشفعون لهم ويجيرونهم من النار، ‏{‏وكانوا بشركائهم كافرين‏}‏؛ جاحدين لها، متبرئين من عبادتها، حين أيسوا من نفعها‏.‏ أو‏:‏ كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتها‏.‏

‏{‏ويوم تقوم الساعةُ يومئذٍ يتفرقون‏}‏ أي‏:‏ المسلمون والكافرون، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضةٍ‏}‏، أي‏:‏ بستان ذي أزهار وأنهار، وهي الجنة‏.‏ والتنكير؛لإبهام أمرها وتفخيمه، ‏{‏يُحْبَرون‏}‏‏:‏ يُسرّون، يقال‏:‏ حبره، إذا سرّه سروراً تهلّل به وجهه، وظهر فيه أثره‏.‏

ووجوه المسار كثيرة، فقيل‏:‏ يُكرمون، وقيل‏:‏ يُحلّون‏.‏ وقيل‏:‏ هو السماع في الجنة‏.‏ قاله غير واحد‏.‏ قال أبو الدرداء‏:‏ كان عليه الصلاة والسلام يذكَّر الناس بنعيم الجنان؛ فقيل‏:‏ يا رسول الله؛ هل في الجنة من سماع‏؟‏ قال‏:‏ «نعم، إنَّ فِي الجنْة لنَهَراً حَافَتاهُ الأبْكَار مِنْ كُل بَيْضَاءَ خَمْصانة، يَتَغَنيْنَ بأصْواتٍ لَمْ تَسْمَعِ الخلائِقُ بمِثْلها قَطُّ، فَذلك أفْضَلُ نعيم أهل الجنَّة» قال الرواي‏:‏ فسألت أبا الدرداء‏:‏ بم يتغنين‏؟‏ قال‏:‏ بالتسبيح إن شاء الله‏.‏ والخمصانة‏:‏ المرهفة الأعلى، الضخمة الأسفل‏.‏ ه‏.‏ انظر الثعلبي‏.‏ وذكر غيره أن هذا السماع يكون في نُزْهَةٍ تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر، وقد ذكرناها في شرحنا الكبير على الفاتحة‏.‏

‏{‏وأما الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة‏}‏؛ بالبعث ‏{‏فأولئك في العذاب مُحضرون‏}‏‏:‏ مقيمون، لا يغيبون عنه‏.‏ عائذاً بالله من غضبه‏.‏

الإشارة‏:‏ من اعتمد على غير الله، أو ركن إلى شيء سواه، فهو مجرم عند الخصوص، وذلك الشيء الذي ركن إليه صنم في حقه، يتبرأ منه يوم القيامة، ويُبلس من نفعه، ‏{‏يوم تقوم الساعة يُبلس المجرمون‏}‏‏:‏ الآية‏.‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يومئذٍ يتفرقون‏}‏؛ فريقٌ هم أهل الوصلة، وفريق هم أهل القطعة، فريق في المنة، وفريق في المحنة، فريق في السرور، وفريق في الثبور، فريقٌ في الثواب، وفريق في العقاب، فريق في الفراق، وفريق في التلاق‏.‏ قال القشيري‏:‏ وإذا كان الأمر هكذا، فَجِدَّ، أيها المؤمن، في طاعة مولاك، وأَكْثِرْ من ذكره، صباحاً ومساء، وليلاً ونهارا؛ لتنال ذلك الوعد، وَتَنْجَو من الوعيد‏.‏